حقًّا .. إنها أمانة !!

الحمد للَّه رب العالمين ، وهو اللَّه لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه ترجعون ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا للَّه عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

أما بعد .. فقد رحل عنا أخونا صفوت الشوادفي - رحمه اللَّه تعالى - تاركًا لنا أمانة ثقيلة في الدعوة إلى اللَّه تعالى ، ونَشْرِ السنة ونبذ البدعة ، وكان آخر ما نشر من كتاباته قبل موته تلك النصائح الغالية المستفادة من سنة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم -وهديه وهدي سلفنا الصالح رضوان اللَّه عليهم أجمعين ، ثم كانت مقالته عن أنصار السنة والانتخابات والتي نُشرت بعد موته - رحمه اللَّه - بيَّن فيها منهج الساعين إلى المناصب الدنيوية بكل السبل والوسائل المشروعة وغير المشروعة ، وقد تناسوا عظم الأمانة التي يسعون إلى حملها وعدم قدرتهم على القيام بأعبائها ، وكأن الشيخ رحمه اللَّه يوصينا قبل أن يودعنا ، وينصحنا حتى لا ننخدع ، ويحذرنا منهج الذين لا يعلمون ، ولا يقيمون لهذه الأمانة وزنًا ، فتكون العاقبة خزي وندامة .

حقًّا إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من كان أهلاً لها فأخذها بحقها ، وأدى الذي عليها فيها بتوفيق اللَّه ومعونته .

لقد كانت نصيحةُ النبي -صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر الغفاري - وقد جاء طالبًا الولاية ، طامعًا في عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم -  نصيحةُ محب صادق حريص على من يحب ، فقال له : ((يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفًا ، وإني أُحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ، ولا تولين مال يتيم )) ((إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها )) . [صحيح مسلم - ك الإمارة ( ح1825، 1826) ] .

إن غياب الضوابط الشرعية عن المرشحين للمجالس النيابية وعن الناخبين الذين يختارون من يمثل الأمة ظاهرة خطيرة ، وقد جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم - نذيرًا لقرب قيام القيامة وزوال الدنيا ؛ لأنها تمثل ضياعًا للأمانة ، فقال : (( إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة )) . قالوا : كيف إضاعتها ؟ قال : (( إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) . [ البخاري - ك العلم (59) ].

وبهذا تضيع الأمانة ، وتنزع من القلوب نزعًا ، (( ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت(1) ، ثم ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل(2) كجمر دحرجته على رجلك فنفض فتراه منتبرًا ، فيصبح الناس يتبايعون فلا تكاد تجد رجلاً يؤدي الأمانة ، حتى يُقال : إن في بني فلان رجلاً أمينًا ، وحتى يقال للرجل : ما أعقله ما أجلده ما أظرفه ، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان )) . [متفق عليه ].

((فلا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له )) . [ أحمد ( ج3، 135، 154) ] .

وجوب تولية - اختيار - الأصلح :

إن أبسط الضوابط التي ينبغي على الأمة أن تراعيها عند الاختيار وجوب تولية الأصلح والأقدر على تحمل أعباء الولاية ، وهذا يغيب عن معظم المرشحين ، وأكثر الناخبين ، فنرى ذلك التنافس الشديد والحرص على الوصول للمنصب بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، ببذل الأموال ، وتكثيف الدعايات ، وخداع البسطاء من الناخبين ، واستجداء أصواتهم ، ومثل هذا التنافس لا يفرز دائمًا أصلح الأشخاص في ظل غياب الوعي الديني والثقافة النافعة ، فينسى المرشحون أنها أمانة عظيمة سيسألون عنها أمام اللَّه تعالى ، وأنها خزي وندامة في الدنيا والآخرة على من أخذها بغير حقها ، ولم يؤد ما وجب عليه فيها .

لأجل هذا أقول للمرشحين للمجلس النيابي ونحن على أبواب الانتخابات : اتقوا اللَّه فيما أنتم مقدمون عليه ، ألا تعلمون أنكم ستقومــون على وظيفة التشريع وسن القوانين ، وأنكم ستُسألون أمام اللَّه تعالى عن كل تشريع يخالف شرع اللَّه تعالى ، فاتقوا اللَّه في دينه وشريعته ، واتقوا اللَّه في الأمة التي اختارتكم ، ولا تحيدوا عن شريعة اللَّه تعالى ، واذكروا قول اللَّه تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .

{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 58، 59 ] .{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء : 65 ] .

إن مدار الصلاحية لأي منصب على القوة والأمانة ، القوة على تحمل أعباء المنصب والقيام عليه على الوجه اللائق ، والأمانة التي تجعلك تؤدي إلى كل ذي حق حقه ، ويدخل في هذا العلم بحدود المنصب أو الولاية ، والعلم بشريعة اللَّه وما تحكم الناس به ، ثم القدرة على القيام بهذه الأعباء ، والاستعانة بالأمناء الأقوياء من أهل العلم والتخصص ، ثم مراعاة العدالة لإيصال الحقوق إلى أربابها دون مجاملة أو محاباة .

قال يوسف عليه السلام لملك مصر وقد جاء منقذًا : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف : 55 ] ، فكانت مؤهلاته في علمه وحفظه وأمانته وقوته . وقالت المرأة الصالحة لأبيها: { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } [ القصص: 26 ].

وأقول للناخبين : احرصوا على اختيار من ترونه صالحًا قادرًا على القيام بأعباء النيابة ، وإياكم والتعصب لأحد لأجل قرابة أو صلة أو لأهواء النفس ؛ لأنكم توليتم عملية الانتخاب والاختيار : (( ومن ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين )) [ أخرجه الحاكم عن عمر موقوفًا ومرفوعًا ] .

واعلموا أن من أعظم الخيانة أن تختاروا الرجل لأجل الدنيا والمنافع الخاصة : ((ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - منهم -: رجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا ، فإن أعطاه منها وفى ، وإن لم يعط منها لم يف )) . [ متفق عليه].

فيا ليت كل إنسان يدخل في هذا الأمر ينظر جيدًا إلى نفسه ليرى مواطن القوة والضعف فيها ، فإن كان من الأمناء الأقوياء الحافظين العلماء تقدم مستعينًا باللَّه ، وإلا نأى بنفسه عن السقوط في هاوية الظلم والخيانة . ويا ليت كل واحد منا يعرف كيف يميز الأمناء الأقوياء فيختار منهم لا من غيرهم رعايةً لمصالح الأمة.

طالب الولاية لا يولى :

ومن الضوابط الشرعية أيضًا أن طالب الولاية لا يولى ؛ لأن طالب الولاية حريص عليها ، يسعى لتحقيق المكاسب الشخصية من ورائها ، ولا يلقي بالاً للأعباء التي سيقوم بها ، وللأمانة التي ستكون في عنقه ، ولهذا نراه ينفق الأموال الطائلة في سبيل الوصول إلى غرضه ، ويبذل الوعود الكاذبة يخدع بها الناس ، فإذا وصل إلى غايته كان همه تعويض ما أنفقه وتحصيل كل كسب ممكن .

أما من يدرك عظم الأمانة ويفكر في أعبائها، ويخشى ألا يكون قادرًا عليها ولا يزاحم غيره في طلبها فإنه يكون أقدر الناس على تحمل عبئها، وأبعدهم عن الطمع في مكاسبها، ومثل هذا يُعينه اللَّه ويوفقه ويسدد خطاه.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة : (( يا عبد الرحمن ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها )) .متفق عليه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا سأله ولا حرص عليه )). [ مسلم ].

محاسبة الولاة والعمال:

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يحاسب الولاة على ما قدموا حسابًا دقيقًا ، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يحاسبون الولاة ، فلا يسمحون لهم بممارسة التجارة والتربح على حساب الولاية ولا يقرونهم على قبول الهدايا ، ويحسبون عليهم أموالهم قبل الولاية وبعدها لمنعهم من الإثراء غير المشروع ، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم - للوالي الذي قبل الهدية وأرادها لنفسه : (( هلا جلست في بيت أبيك ثم تنظر هل يهدى إليك؟ )) وكان عمر يقول للوالي : ( إنما بعثناك واليًا ولم نبعثك تاجرًا ) .

وأخيرًا أقــــول لمن قــــدر اللَّه لهم النجــاح في الانتخابات ، ولكل ولاة الأمور : اعلمـوا أنكم أُجَراء تعملون في مصالح الرعية ، ولذا يجب عليكم أن تلينوا لهم الجانب وترفقوا بهم ، اخفضوا الجناح لهم، ولا تتعالوا عليهم ، ولا تغلقوا الأبواب دونهم ، وابذلوا كل الجهد في النصح لهم ، والعدل بينهم ، واعلموا أنكم إن فعلتم ذلك تبتغون به وجه اللَّه وترجون ثوابه ، كان ذلك سبيلكم إلى الجنة ، وإن ضيعتم وقصرتم كان ذلك سبيلكم إلى النار ، وتذكروا قول النبي -صلى الله عليه وسلم - : (( ما من عبد استرعاه اللَّه رعيةً فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة )) . ((ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين فيموت وهو غاشٌ لهم إلا حرم اللَّه عليه الجنة )) . [ البخاري ].

احذروا بطانة السوء :

واحذروا بطانة السوء ، والمنافقين الذين يمتدحونكم في وجوهكم ويثنون على أعمالكم ما دمتم في مناصبكم ، فإذا أدرتم وجوهكم عنهم سلقوكم بألسنة حداد ونالوا من أعراضكم .

وعليكم بأهل العلم والتقوى والورع فاقبلوا منهم واعملوا بنصحهم ، وأحسنوا إليهم ، واعلموا أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما بعث اللَّه من نبي ، ولا استخلف من خليفة ، إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللَّه تعالى)) . [ البخاري ].

وختامًا.. اعلم أيها القارئ العزيز أن الناس إذا أعرضوا عن ضوابط الشرع وأحكامه ، وخاضوا في هذه الأمور بغير وازع من دين أو ضمير فلا خير فيهم ولا في مشاركتهم ، فلا تكن معهم على منكر تعارفوا عليه ، واأمرهم بالمعروف وشاركهم فيه ، وإلا فعليك بخاصة نفسك كما قال تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] .

وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم - : ((إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وخَفَّتْ أماناتهم ، وكانوا هكذا )) - وشبك بين أصابعه - قالوا : فما المخرج من ذلك ؟ قال : ((تأخذون ما تعرفون ، وتدعون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم - أي أهل السنة والعلم - وتدعون أمر العامة )) . [ رواه أحمد ] .

فخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة، والزم بيتك حال الفتن.

نسأل اللَّه أن يعصمنا من الزيغ والضلالة ، وأن يعيننا على أداء الأمانة . إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه

(1) الوكت : الجرح يشفى ويبقى أثره .

(2) المجل: الحرق يصيب الجلد فيظهر فيه فقاعات من الماء.

تاريخ الاضافة: 13-10-2010
طباعة