« لبيك اللهم لبيك »










ها هي أيام الحج قد دخلت، ونسمات عرفة ومزدلفة ومنى تداعب وجوه المؤمنين، فتلهب مشاعرهم شوقًا ولهفة لحج البيت العتيق فتهتف القلوب قبل الألسنة: لبيك اللهم لبيك، {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].


 


وقد عزم إخواننا بوزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية على إصدار مطبوعة جديدة في الحج بعنوان "لبيك" فهيجني هذا للحديث عن التلبية والإجابة.


 


لبيك اللهم لبيك:
التلبية لغة إجابة المنادى، والإجابة والاستجابة بمعنى واحد، والإجابة قد تكون بالفعل، كإجابة الدعوة إلى الوليمة.
وقد تكون بالقول بجملة كرد السلام، أو بحرف الجواب مثل نعم وبلى، وقد تكون بالإشارة المفهومة.
وقد يعتبر السكوت إجابة مثل سكوت البكر عند استئذانها في الزواج لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "البكر تُستأذن، وإذنها صماتها".


 


التلبية سلوك عام للمؤمنين:
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فالاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره، وترك ما نهى عنه، والإيمان به وإخلاص العبادة له سبب في الهداية والرشاد، ولهذا ورد الأمر بها.


 


استجابة مؤمني الجن:
لقد عرف مؤمنو الجن أن استجابة المؤمنين لربهم هي سبيل النجاة من العذاب ومغفرة الخطايا والذنوب وأن الذين يستكبرون عن طاعة الله لن يكونوا معجزين لله في الأرض، فجاءوا مسرعين لدعوة أقوامهم، ناصحين لهم، قد امتلأت قلوبهم باليقين، وقد ذكر الله لنا خبرهم فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29- 32].


 


فانظر رحمك الله إلى هؤلاء الذين هداهم الله فصرفهم بقدرته للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعوا إلى تلاوته فعرفوا كلام الله وأنصتوا عند سماعه، فتدبروا ما سمعوه فآمنوا به، ثم انصرفوا يحملون أمانة الدعوة وينذرون أقوامهم ويأمرونهم بالاستجابة لداعي الله الذي لا هم له إلا الدعوة إلى الله، لا يسألهم عليها أجرًا عسى الله أن يغفر ذنوبهم ويجيرهم من عذاب النار، وإذا أجارهم من العذاب الأليم فقد فازوا بالنعيم المقيم، أما من أبى واستكبر فلن يعجز الله في الأرض وليس له من دون الله من أولياء يدفعون عنه العذاب يوم القيامة، فأي ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، وبلغته النذر بالآيات البينات ثم أعرض واستكبر أولئك في ضلال مبين.


 


الله يستجيب للمؤمنين:
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 60].


 


فانظر إلى لطف الله بعباده، ونعمه عليهم، كيف دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه دعاءَ العبادة ودعاءَ المسألة، وبين لهم أنه قريب يجيب دعوة الداعي ويستجيب له، أما الذين يستكبرون عن عبادته ودعائه فمآلهم العذاب الأليم، يجتمع عليهم العذاب والإهانة ويدخلون جهنم داخرين.


 


روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". قالوا: إذن نكثر؟ قال: "الله أكثر". أي ما عند الله من الفضل والعطاء أكثر من الدعاء مهما أكثرتم من الدعاء، وهو سبحانه يدعو عباده إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وهو الغني عنهم: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم". رواه مسلم.


 


استجيبوا لله وللرسول:
ينادي المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين يدعوهم إلى أن يستجيبوا لما فيه حياة القلوب والأبدان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}{الأنفال: 24}، {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا البَلَاغُ} [الشورى: 47، 48].


 


وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: "ما منعك أن تأتي، ألم يقل الله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد"، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته".


 


جزاء المستجيبين الجنة:
قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ} [الرعد: 18].


 


يكفيهم الله ما أهمهم:
قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172- 174]، وقال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 36- 43].


 


التلبية في الصلاة:
تتجلى التلبية كسلوك يومي للمسلم في إجابة المؤذن حيث ينادي حي على الصلاة، حي على الفلاح فيجيب السامع ويردد كلمات الأذان مكبرًا ومهللاً ومحوقلاً، عالمًا أن الحول والقوة لا تكون إلا بالله القوي العزيز، الذي هداهم للإيمان والطاعة، ثم دعاهم ليستجيبوا له مسبحين بحمده، فهو الذي يدعوهم وهو الذي يوفقهم، وهو الذي يستجيب لهم ويقبل منهم ويجازيهم بفضله.


 


ولهذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعنا المؤذن أن نقول مثل ما يقول معلنين الاستجابة للنداء، ساعين إلى لقاء الله عز وجل، وعلمنا إذا شرعنا في الصلاة أن نلبي بعدما نكبر فنقول في استفتاح الصلاة: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك.


 


روى مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".


 


التلبية في الحج والعمرة:
التلبية هي شعار الحجيج منذ نادى إبراهيم في الناس بالحج ممتثلاً قول الله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.


 


لقد كان العرب في الجاهلية يحجون ويلبون، ولكنهم يلبسون حجهم وتلبيتهم بما كانوا عليه من الشرك بالله فيقولون: "ليبك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك".


 


وجاء النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ليعلن التوحيد ويهدم أركان الشرك، لبى بالتوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". وكان بعض الناس يزيد على تلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم ماداموا على التوحيد، ولكنه صلى الله عليه وسلم التزم هذه التلبية لا يزيد عليها، ففيها توحيد الله عز وجل ونفي الشريك عنه، وإثبات الحمد والنعمة والملك لله وحده لا شريك.


 


وقد صح عن ابن عمر أنه كان يلبي بتلبية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل". رواه مسلم.


 


"لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن". ابن أبي شيبة- فتح الباري (3-410).


ويروى عن أنس: "لبيك حجًا حقًا تعبدًا ورقًا".


 


وتبدأ التلبية عند الإحرام بالإهلال، وتستمر حتى يرى المعتمر الكعبة فيقطع التلبية ويبدأ الطواف، وتستمر مع الحاج حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر.
ويستحب رفع الصوت بالتلبية، فأفضل الحج العج والثج، والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء يوم النحر.


 


وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أتاني جبريل فقال: يا محمد، مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج". رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وتكرار التلبية، وتكرار لفظ لبيك يفيد استمرار الإجابة أي إجابة بعد إجابة وقيل التلبية من اللزوم والإقامة، والمعنى: أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك مرة بعد أخرى، ولازمت الإقامة على طاعتك.


 


لقد كان الصحابة يلبون إذا دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيقول الواحد منهم: لبيك رسول الله وسعديك، فالتلبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم متابعة هديه وسنته، والتلبية لله توحيد وطاعة، والمؤمن لا ينفك عن التلبية والاستجابة حتى يلقى الله عز وجل، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وبشرته الملائكة برضوان الله فاستبشر، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.


 


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






» تاريخ النشر: 27-09-2010
» تاريخ الحفظ: 28-03-2024
» الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ د. جمال المراكبي
.:: http://almarakby.com/web/ ::.